في “ريحاب” الجزيرة

هكذا كنا نلفظها .بعد أن فتحنا أعيننا على البرنامج التلفزيوني الثابت والراسخ رسوخ الجبال، “في رحاب الجزيرة”  _  الذي ينقل بعض أخبار الجزيرة السورية اسبوعياً. وأغنية شارته المميزة التي يؤديها الفنان كرم كرم شقيق االمطرب المعروف الياس كرم _ مثل كل برامج التلفزيون السوري من ” أرضنا الخضراء” وأغنية وديع الصافي “خضرا يا بلادي خضرا” إلى “مع العمال ” وصولاً ل “الشرطة في خدمة الشعب” لصاحبه المرحوم علاء الدين الأيوبي.

كان هذا التلفزيون الفريد من نوعه ،هو القناة الوطنية الوحيدة التي يطل منها معظم السوريين على العالم. بينما كنا في الجزيرة السورية نلتقط ـ بحثاً عن تنوع مفقود في إعلامنا الوطني ـ بث القنوات العراقية والتركية بوضوح أكثر من شاشتنا الوطنية. وأهل الساحل المشمس، تصلهم القنوات اليونانية والقبرصية واللبنانية وحتى الإسرائيلية بشكل أوضح من تلفزيوننا الوطني. فيما اقتصر حظ مناطق ريف حمص الغربي وريف دمشق والقنيطرة على بعض القنوات اللبنانية. أما الجنوب السوري فكان ينفرد بالتلفزيون الأردني إضافة إلى الإسرائيلي طبعاً.

كنا نستغرب أن تكون الجزيرة السورية – كما نشاهدها على شاشة التلفزيون السوري – بهذا البهاء والجمال والسعادة، ونقول في أنفسنا الأمارة بالسوء: يا الله ما أحلى الجزيرة.
ونكاد نسأل آباءنا: متى ستأخذوننا في زيارة إلى هذه المناطق الخلابة؟ لنرى هذه الحقول الخضراء والبيوت الجميلة والمطاعم والمنتزهات.

نسخ ولصق

في حكاية شبيهة بحكايتنا مع التلفزيون وبرامجه، يزور الرفيق بريجينيف رئيس الاتحاد السوفييتي  وقتها إحدى الكولخوزات، وهي قرى زراعية تعاونية أنشأتها الدولة الاشتراكية تطبيقاً لشعار “الأرض لمن يعمل بها”. اجتمع الفلاحون حول بريجنيف وهم يهتفون بحياته وحياة الحزب، قبل أن يبدأ الرئيس بسؤالهم عن  أحوالهم أوضاعهم:

كيف الأرض والمحاصيل؟

ـ ممتازة، أجاب الفلاحون.

كيف وضع المياه؟

ـ متوفرة وعذبة

ماذا عن وضع الآليات من جرارات وعزاقات وحصادات؟

ـ بأتمّ الجاهزية.

والأدوية والأسمدة؟

ـ كله تمام التمام أيها الرفيق الغالي.

وقبل أن يهم الرفيق الكبير بالانصراف تذكر سؤالاً أخيراً:

نسيت أن أسألكم أيها الرفاق الرائعون: هل تصلكم “البرافدا” وتقرأونها؟

(البرافدا كانت الصحيفة المركزية الناطقة باسم الحزب الشيوعي ،وتكاد تكون الصحيفة الوحيدة في البلاد، وبقية الصحف القليلة  الأخرى نسخ عنها كما “الثورة” و”تشرين” و”البعث” في بلادنا الخضراء).

أجاب الرفاق الفلاحون بصوت واحد: طبعاً يا رفيق، لكن من أين لنا أن نعرف كل هذه المعلومات عن كولخوزنا.

انتهت الزيارة وخرج الجميع سعداء.

الجزيرة. . . تاريخ ،جغرافيا وحرمان

الجزيرة التي تنتج معظم خيرات البلد من قمح وقطن ونفط وعمال مياومين، لتصدره إلى الداخل وتبقى هي تنتظر فرجاً لم يأتِ.
تسميتها بالجزيرة جاءت من كونها محاطة بنهرين عظيمين، الفرات ودجلة. الأول أنشئ عليه سد كبير (سد الفرات). ظلوا يلقنوننا منذ نعومة أظفارنا، على أنه من إنجازات “الحركة التصحيحية المباركة” ،وهي التسمية الرسمية للانقلاب العسكري الذي نفذه حافظ الأسد ضد رفاقه البعثيين من جماعة صلاح جديد في 16 تشرين 1970. لتدخل البلاد بعد ذلك مرحلة حكم الشخص الواحد لا الحزب الواحد حتى.

في حين تروي وقائع التاريخ، أن التأسيس لبناء هذا السد كمشروع ودراسة، بدأ في خمسينيات القرن الفائت. قبل أن يبتلع غول العسكر الدولة السورية، عن طريق دمج سوريا مع مصر في وحدة قسرية لم تدم سوى سنوات ثلاث، لكنها أسست لخراب مديد.
سد الفرات الذي ينتج كهرباء تغذي مناطق واسعة من سوريا، ويسقي مزارع الإقطاعيين الجدد فيها، الذين لم يتركوا لفقراء الفلاحين سوى النزر اليسير منها. أما دجلة فهو نهر حدودي لم يُستثمر شيء منه، سوى إن أبناء بعض القرى القريبة، كانوا يخرجون إليه لصيد السمك، معرِّضين أنفسهم لرصاص “الجندرمة” التركية، المتربصة بأي شخص يقترب من النهر الحدودي، خوفاً من أي تواصل بين أكراد الجزيرة السورية وأكراد تركيا، ولو بالإشارة.

في أصل تسمية الجزيرة السورية و جذورها

يورد الباحث محمد جمال باروت في مقدمة كتابه القيم “التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية“(1) ما يلي:

“لفهم كيفية نشوء الجزيرة السورية الحديثة وعلاقتها بإقليم بلاد الجزيرة التاريخي، كان لا بد من تحديد مفهوم الجزيرة والعودة الى جذور تبلوره وتطوره”.

وفي هذا الإطار يقصد الباحث بالجزيرة السورية، ما كان يشكل من الناحية المجالية البشرية جزءاً من “ديار ربيعة” في إقليم بلاد الجزيرة التاريخي. أو ما سيطلق عليه الخبراء والإداريون الفرنسيون، في مرحلة الانتداب الفرنسي على سورية اسم “الجزيرة العليا” .أو ما يعنيه اليوم المفهوم الإداري في التقسيمات الإدارية السورية”.

ويضيف باروت: (الجزيرة هو الإسم الذي أطلقه الجغرافيون والمؤرخون المسلمون على ما كان يعنيه الإغريق بـ“Mesopotamia”” أو ما بين النهرين (دجلة والفرت). أو ما كان يعنيه السريان بـ”سوريا بريثا” (سوريا الخارجية). أو الرومان بـ”سوريا الأولى” وهي إقليم نهري راسخ العمران منذ فجر الثورة الحضرية في العالم، وتكوّن الرؤى الأولى للانسان. لكنه تعرض للدمار منذ أواخر القرن الرابع عشر الميلادي بفعل الغزوات التتارية. وكان الجزء الأوسط الذي يشمل اليوم في سوريا المجال الإداري لمحافظات الرقة وديرالزور والحسكة الأكثر خراباً.

وفي حين استؤنف العمران في كل من الجزيرة العليا والجزيرة السفلى، فإن الخراب استمر في الجزيرة الوسطى خمسة قرون ونيف ـ فيما عدا بعض البؤر الحضرية المحدودة ـ حتى ستينيات القرن التاسع العشر”.

زفرة من الذاكرة وتلويحات الأمل

ما سبق من سرد طويل نسوقه لنتحدث:

عن الجزيرة السورية التي نعرفها، التي عشنا بؤسها وحرمانها وطرقات الغبار فيها. التي تعبرها شاحنات الرمل التي تنقل رمل شواطئ دجلة إلى معامل البلد. وتملأ القرى التي تعبرها بالغبار والدخان. لكنها في الوقت ذاته، تساهم في نقل المقطوعين على الطرقات إلى أقرب نقطة من ديريك أو القامشلي لقضاء حاجاتهم. كمراجعة الطبيب أو التسجيل في النفوس أو في مدارس المدينة. في ظل غياب شبكة طرق حديثة أو وسائل نقل تليق ببشر ينتمون إلى هذا البلد.

عن حرمان جزء مهم من أهلها الكرد من الجنسية السورية (قدر عددهم بين مائة ألف ومائتي ألف) . تضاعف هذا العدد من خلال التزايد السكاني خلال السنوات الخمسين الأخيرة، التي فصلت بين الإحصاء الاستثنائي الذي أقرته حكومة الانفصال عام 1962.

(بتوصية من ضابط أمن “عروبي” في زمن الوحدة اسمه محمد طالب هلال. وحرمت بموجبه هؤلاء السوريين من جنسيتهم). وبين عام 2011 .حين اضطرت السلطة السورية إلى إعادة الجنسية السورية لهم تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية التي عمّت معظم المناطق السورية، ومنها مدن الجزيرة الرئيسية من ديريك إلى القامشلي وعامودا وتربسبيه والرقة ودير الزور.

عن نمو فئة الإقطاعيين الجدد من المسؤولين الأمنيين والإداريين ،الذين كانوا يستقتلون من أجل استلام مناصب في منجم الذهب هذا. في ظل تغييب أي فعل سياسي يعبر عن طموحات ومطالب سكان المنطقة من عرب وكرد وآشور وسريان وكلدان وأرمن وغيرهم.

عن بداية الهجرات الكبيرة من الجزيرة باتجاه العاصمة والمدن الكبرى. بحثاً عن لقمة عيش وفرصة عمل، في الأعمال الشاقة والمنبوذة من أبناء هذه المدن التي استقبلت هؤلاء الفقراء من مناطقهم ذات الخيرات المنهوبة، وكدستهم في العشوائيات وأحزمة البؤس فيها. و تحت شوادر المخيمات الطارئة بجانب حقولها وبساتينها.

أخيراً..

هذه العناوين وغيرها، بمكن أن تكون مواضيع لمقالات وأبحاث وحكايات. تحاول تقديم سردية مختلفة عن رواية السلطات المتعاقبة، التي مارست التعالي على أبناء الجزيرة باختصارهم إلى ألقاب وتوصيفات تعميمية مقيتة (أكراد، بويجية، قرباط، شوايا، . . . الخ). وكرّست لدى قطاع كبير من السوريين، نظرة تحقيرية متعالية على  أناس ينتمون إلى إحدى اعرق الحضارات التي مرت في هذه البلاد عبر آلاف السنين.

حسين محمد/ كاتب من الحسكة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع
إقرأ أيضاً … نان تيرى..خبز من التراث الكردي