بعد عقدين من تأثرِها التدريجي بظاهرة تغير المناخ، تتجه سوريا لتصبح من أكثر الدول تأثراً بتداعياتها، التي توصف بأنها قد تهدد مستقبل البشرية على كوكب الأرض.
وحال سوريا في ذلك، هو حال غالبية بلدان الشرق الأوسط. التي ستصبح في قلب مخاطر هذه الظاهرة خلال العقود الثلاثة القادمة، ما يهدد أمنها المائي والغذائي. وفق ما تُجّمِعُ عليه تقارير(1) العديد من المنظمات الدولية غير الحكومية، إضافة إلى أخرى تابعة للأمم المتحدة.
هذا السيناريو القاتم، لا يستند إلى تزايد احترار هذه المنطقة مرتين أكثر من المعدّل العالمي فحسب. بل يضاف إلى ذلك ما خلّفته الصراعات عقب ثورات الربيع العربي من تدمير للبنية التحتية. عدا عن ما يتوافر فيها من عوامل انقسام عرقية و طائفية، وفشل لمنظومات الحكم في إدارة موارد البلاد. ما يزيد من مصاعب مواجهة تداعيات التغير المناخي، التي باتت تشكل تهديداً وجودياً.
حيث تدور التوقعات، حول انتفاء إمكانية العيش في مدن ومناطق عديدة، في حدها الأدنى، وإلى حدوث هجرات جماعية(2) جراء تدمير سبل العيش لمعظم السكان، في حدها الأعلى.
التلوث في شمال وشرق سوريا
في مناطق شمال وشرق سوريا، حيث محافظات الحسكة والرقة ودير الزور التي لطالما شكّلت سلة غذاء سوريا وخزانها المائي. تتجلى هشاشة الأوضاع في صورة أكثر وضوحاً. حيث بلغت حصة الفرد من إنبعاثات الغازات الدفيئة فيها خلال العام 2021، نحو 4.52 طن متري/ للفرد سنويًا. وهي تتجاوز متوسط النسبة العالمية التي تقدر بـ 4.2 طن متري / للفرد. ما قد يعني ارتفاع نسبة الأخطار التي تحدق بالمنطقة لجهة قلة الأمطار وزيادة الجفاف. وبالتالي تراجع الغطاء النباتي ومصادر المياه. إضافة إلى انتشار الأمراض التي تهدد صحة الإنسان، بسبب التغيرات الجوية.
ولا تمثل الإحصائية أعلاه، سوى مؤشر واحد من مؤشرات عديدة. أشار إليها تقرير أصدرته منظمة التعاون الإنساني والإنمائي النشطة في شمال وشرق سوريا، في العام 2021، تحت عنوان “تغير المناخ أسبابه وعواقبه”. وتتناول ظاهرة التغير المناخي وانعكاساتها على القطاعات التنموية الحيوية في شمال و شرق سوريا. إذ كشف التقرير عن انخفاض كبير في معدلات هطول الأمطار وتحول أجزاء من هذه المناطق إلى قاحلة وشبه قاحلة. وبعدما كانت الزراعة المصدر الرئيسي لغالبية السكان في المنطقة انخفضت نسبة الاعتماد عليها في الحسكة مثلاً إلى ما دون الـ35%. كما أثّرت قلة توافر الأعلاف في ارتفاع معدلات نفوق الماشية في 37٪ من مجتمعات (الحسكة، الرقة، دير الزور).
أنهار جافة وهطولات مطرية قليلة
ولفت التقرير إلى التأثير الكبير الذي خلفه جفاف نهر الخابور. واقتطاع تركيا من حصة سوريا من مياه نهر الفرات، في تدهور الأوضاع في شمال وشرق سوريا وتفاقم تأثير ظاهرة التغير المناخي على سكانها.
وإذ يمكن هنا، تبرير غياب ظاهرة تغير المناخ وما تخفيه من مخاطر جسيمة، عن دائرة اهتمامات الإنسان السوري. لكونها تعتبر من قضايا النخبة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار، الأزمات المتعددة التي يعيشها. والتي تبدأ بتأمين الاحتياجات المعيشية اليومية ولا تنتهي بفقدان الأمن والاستقرار. جراء تداعيات الحرب التي أسفرت عن تهجير ونزوح ما يقارب من نصف سكان البلاد.
لكن التبرير أعلاه، لا يمكنه أن ينسحب على بقية أطراف المعادلة في المجتمع السوري، سواء أكانت وسائل إعلام أو منظمات مجتمع مدني أو سلطات حاكمة.
وسائل الإعلام..تقصير ودور غائب
فبالنسبة لوسائل الإعلام السورية، كان من الواضح أن العديد منها وخاصة المعارضة، حرصت على إظهار مواكبةٍ لقضايا الشارع خلال سنوات الأزمة. فكان من المعتاد أن ترى مثلاً تقريراً يتناول تراجع إنتاج المحاصيل الزراعية جراء انخفاض معدلات هطول الأمطار. لكن في المقابل، هناك غياب لقضايا البيئة وتغير المناخ في تغطيتها. وإن حدث وتطرقت إليها في بعض المناسبات، لم تكن لتأتي في إطار هادف لتوعية الجمهور بهذه الظاهرة ومخاطرها على محيطه ومصيره ومستقبله. أو أنها تهدف لإشراكه في عمليات الاستجابة ومواجهة التحديات.
منظمات المجتمع المدني..استجابة محدودة
في الجانب المتعلق بمسؤولية منظمات المجتمع المدني السورية، التي يعود تأسيس غالبيتها إلى ما بعد العام 2011.كان من الواضح أن نسبة لا بأس بها وخاصة تلك العاملة في الجانب التنموي، كانت على تماس غير مباشر مع قضايا البيئة وتغير المناخ،. من خلال ما كانت تنفذّه من مشاريع لدعم المزارعين على أرض الواقع.
في مناطق شمال وشرق سوريا مثلاً، ساهمت العديد من المنظمات السورية والدولية التنموية، في تقديم الدعم للمزارعين في مناطق عديدة. ومتعارف في أوساط العاملين ضمن منظمات المجتمع المدني. أن كتلة الدعم الأكبر التي كانت تصل المنطقة، تأتي عبر وزارة الخارجية الأميركية و التحالف الدولي لمواجهة تنظيم (داعش). وكان تركيزها منصباً لجهود إعادة الاستقرار ، التي كانت من المسارات الموازية للجهود العسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية. ورغم أن العديد من المشاريع نفذت ضمن هذا الإطار، في مناطق كالطبقة والرقة ودير الزور وريف الحسكة الجنوبي. لكن يبدو أن التوعية بقضايا البيئة وتغير المناخ، أو تنفيذ مشاريع تنموية أكثر استدامة، من شأنها زيادة إمكانية صمود هذه المجتمعات المحلية في مواجهة تداعيات التغير المناخي الوشيكة، أمرٌ لا يزال بعيدة المنال.
في هذا الإطار، تجدر الإشارة أيضاً، إلى أن الاعتبارات السياسية ساهمت خلال السنوات السابقة، في حرمان بعض المناطق الحدودية ” خاصةً ذات الغالبية الكردية” من الدعم التنموي، المقدم من جانب المنظمات الدولية. والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى وجود حظر، غير معلن، على تنفيذ مشاريع إعادة إعمار أو مشاريع تنموية كبيرة. على امتداد المنطقة الحدودية وحتى عمق 30 كلم، رضوخاً للإملاءات التركية.
السلطات القائمة ودورها في تفاقم الكارثة
أما فيما يتعلق بمسؤولية السلطات الحاكمة القائمة في سوريا، تجاه أهمية التوعية بمخاطر التهديد الجديد، الذي بات يحدق بمستقبل السوريين. فلا يبدو أن هيئة تحرير الشام و حكومة الإنقاذ المرتبطة بها في شمال غرب سوريا، قد أولتا أي اهتمام بقضايا البيئة وتغير المناخ. ليس بحكم أولوية مواجهة خطر القوات الحكومية على الجبهات وحسب، بل لجهة انشغالها الدائم أيضاً، باستغلال أية فرص(3) لتوسيع نفوذها على حساب فصائل المعارضة الموالية لتركيا. ومن ثم العمل على تطبيق مبادئ الشريعة، وفق تصورها العقائدي.
في المقلب الآخر، تبدو الحالة أكثر سوءاً. إذا ما انتقلنا إلى المناطق التي تتقاسم فيها فصائل المعارضة السورية، النفوذ في مناطق شمال غرب سوريا، وشمال شرقها. وهي مناطق لا وجود فعلي للحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف السوري فيها. وكان واضحاً خلال السنوات الماضية، عجز هذه الحكومة عن إيقاف حملات قطع الأشجار التي نفذتها الفصائل التابعة لها بشكل ممنهج في منطقة عفرين. رغم وصولها إلى مستويات قياسية، وفق تؤكد تقارير (4) حقوقية سورية.
تكرير بدائي وتلوث كبير
أما فيما يتعلق بالإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. والتي طالما أعلن مسؤولوها عن أن البيئة هي أحد ثلاثة أعمدة يقوم عليها مشروعها السياسي. نرى أيضاً أن ” قضايا البيئة ومخاطر التغير المناخي” كانت تتراجع في أهميتها أمام ضرورة تأمين احتياجات المنطقة من الوقود الأحفوري. الذي يعتبر عصب اقتصاد المنطقة، ورغم حرصها على تخصيص هيئة للبيئة ضمن حكوماتها المتعاقبة منذ تأسيسها العام 2014. إلا أنها لا تزال مستمرة أيضاً في اعتماد أساليب بدائية في تكرير المشتقات النفطية. الأمر الذي يعتبره خبراء في هذا المجال كارثة بيئية ومناخية بحد ذاتها.
اللافت أن الحكومة السورية بدورها، تبدو منشغلة باستغلال القضية سياسياً، وتسجيل نقاط على معارضيها أو خصومها من الدولة الإقليمية والفاعلة في الشأن السوري. وليس أدل على ذلك أكثر مما ساقته من اتهامات لمختلف هذه الأطراف، خلال مشاركتها (5) إلى مؤتمر قمة المناخ الذي انعقد في شرم الشيخ المصرية في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الفائت. وتحميلها وزر تفاقم تأثيرات أزمة المناخ على سوريا.
في جذور الكارثة
أخيراً، وفي الوقت الذي يتزايد فيه الاعتقاد(6) بأن الصلة بين التغير المناخي وعدم الاستقرار السياسي، ليست مجرد مصادفة. بل قد تكون الحقيقة الرئيسية في القرن الحادي والعشرين. تبدو المفارقة في الحالة السورية أن موجة الجفاف التي ضربت سوريا ما بين العامين 2006 و2009. وما اقترن بها من سوء الإدارة المائية والإهمال الحكومي لأحوال المزارعين، ساهمت مجتمعة إلى جانب عوامل أخرى في انتشار التمرد ضد الحكومة السورية، العام 2011. لكننا قد نجد في الوقت عينه، أن ظاهرة تغير المناخ باتت عاملاً رئيسياً في إطالة أمد الصراع المستمر منذ 12 عاماً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ