شأن الكتابة الشخصي
كنتُ جربتُ في البدءِ، مجاورةَ قافلة أبي الطيّبِ. كتبتُ الوزنَ و خبرتُ” النبطي قبلُ سَماعاً.
وليسَ أوزانَ الفراهيدي الستةَ عشر والجوازات.
فلمْ أصبحَ شاعراً ولافارساً”، أنامُ ملءَ جفوني عن شواردِها، ويسهرُ الخلقُ جراها ويختصمُ”.
ولمْ أسعَ لأعطيةٍ من الإخشيدي. بالكادِ تَحصّلتُ تصفيقَ رفاقي الشيوعيين آنذاك.
وحفظتُ عن ظهر قلبي الأغنيةَ الطبقية:
“اسمهُ مناضل، أطيب أكلهُ فلافل”.
منتصراً بذلك للأمميةِ العالمية، ومتنكّراً لهزائمي (الوطنيةِ) والشخصية.
بدءاً من “وعد بلفور المشؤوم”. وانتهاء بـ يُتمي وزواجِ أبي، وتحوله في أحسنِ أحوالهِ إلى زوج أمّ.
لم يسعدهُ كثيراً الإبن الذي حفظ نشيدَ السلام العالمي مع لحنهِ.
وعزفهُ على الغيتارِ بنشازٍ شديد.
فالبدو يجيدونَ العزفَ على الربابةِ، وإذا ما أرادوا أن يهبوا صوتها حزناً شديداً يقولون:
“الربابة تجوحُ” أو يقولون “جُوْحْة الذيب”.
ولكأنّ بصيرتهم قادتهم إلى أنْ لاسلامَ في الأفق.
بينما تكاثرتْ على المكان الذئاب الغريبة!.
قررتُ أنْ أكونَ الماغوط، فلم أتقن الألِف الليّنة المائلة. في لهجةِ أهلِ السلميةِ.
فسالمتُ حظي، وقلتُ كما قال: “سأخون وطني”، وأحلامي. بعدَ أن عرفتُ أنّ ” الفرح ليسَ مهنتي”.
ولامهنةَ أهلي الذين يخوضونَ في الماء والنار والمجاعة، وأصبحوا وهباً مشاعاً بين سلطة القمع، وهوان المعارضات.
كذلك بطبعي البدوي، بتلك الحمولة الكافية من الجلافة، لم يعجبني سِكيرُ (الميسات)، بقدر كرهي لمريديهِ ومتصوفتهِ، وطريقتهم في التلطيِ تحت عباءته.
مستثنياً رياض الصالح الحسين. متأثراً بتجربتهِ، ومتفوقاً عليهِ بحسب القاعدةِ النيتشويه”
“التلميذ يكافئُ معلمَهُ أسوأ مكافأة، إذا بقي تلميذاً”.
لقد مات المعلّم والتلاميذ.
بكّرتُ بقراءةِ أوراقِ الزيتونِ والعصافيرُ تموتُ في الجليل. وصرتُ أنكشُ أسناني من لحمِ مغتصبي.
وقلتُ بعدَ أنْ اشتدّ عودُ فهمي للشعرِ: وداعاً محمود درويش.
لنْ أكونَ مثلكَ شاعر الأرض المحتلّة، من المحيطِ إلى الخليج. ومن” خلافة بلاد المغرب” إلى” إدارة شرق الفرات”،
وأنا مُحتلٌّ ومختلّ التوازن والجهات.
وكما افترقَ صاحب” لماذا تركتَ الحصان وحيداً“، عن فاشية اللغةِ المبكّرة، افترقت عن النبرة العاليةِ، وتعدد الأصواتِ وتذبذبها في نصي. لصالحِ اللغةِ، بعيداً عن التفاصيلِ، وشعرية السرافيس بين البرامكة ونهر عيشة على أطراف دمشق.
اهتديتُ إلى أحمد مطر، ـ لم أحبّه شاعراًـ أحببتُ شتيمتهُ وزهدهُ في الغياب. وتعرّفتُ شبيههُ راشد حسين، ورددتُ معه” اللّه أصبحَ غائباً”.
إلى أنْ هددَني حرّاسُ الفضيلةِ فتركتهُ، وبحثتُ عن وادٍ آخرَ أهيمُ فيهِ لأتعرّفَ جنيّةَ الشعرِ، بعدَ أنْ عرفتُ صيغةَ اللة المذكّرة من أصدقائي الذينَ يَسكرونَ معي، ويُصلّونَ الفجرَ في الجامعِ القريبِ من الحانةِ!.
هاتِها أيها النادل، فأنا بدوي، ومن الظمأ “يجرح لساني لهاتي”. أقرأهُ النوّاب مهجوراً من أتباعهِ بحجةِ الحداثةِ، وتخلّف قصيدته عن (انفجاراتهم الشعريةِ) وقد نسوا الحربَ التي في قصيدتهِ، أصيحُ يا النوّابُ ببُحتي التي تُشبه بحته: هاهم أولادُ القحبةِ كبروا كثيراً، استوطنوا رأسَ الثورِ، وخروجهم صارَ معجزة.
يلزمنا دهر كاملٌ من الشتائم لنوابِ الله على الأرض، ويلزمنا ألف شاعر شتّام ليجرح ذواتنا، وجرّاح واحدٌ مخلصٌ يرتّق فتوق أرواحنا، ويجمّل ندوبنا ولو إلى حين!.
والشمال امتحان
لجأتُ فيما لجأتُ في قراءاتي إلى قاسم حداد، وحمدتُ الربّ أنْ اجتمعنا في جنةِ” هاينريش بول”، في وقتٍ كانت أصوات الانفجارات ووقعاتُ البراميل في بلدي، تأخذُ حصتها من كلّ بيت.
كان الهدوء في بلدي البديلِ (أرض الجرمان) مفاجئاً وصادماً، ولولا رعاية هذا الكائن الذي من صنفِ المعلمين التاريخيين، لكنتُ استسلمتُ للصوتِ العالي في داخلي، وبقيتُ في كنفِ الشتات غير آبهٍ بالهدوء الذي تحصّلتهُ.
لم نكنْ في حصة الجغرافيا التي اجتمعنا فيها، إلا أولاداً ناقصي عطفٍ وفاقدي أهلٍ وعائلة، فكانَ لنا أباً وزوجهُ الكريمة أمّاً، يقرؤنا، ويصوّب بخطّ الرصاص، لئلّا يجرحنا أو يحبطنا.
لم أكن بعيداً عن سليم بركات، رصانة اللغة، وأجواء الحكاية. من الزرازير إلى الحجل إلى الكراكي، ومن العلاقةِ الجغرافية إلى العلاقة البيولوجية مع الكرد بحكم الخؤولة، ومن علاقة ملتبسة ونادرة بين الضيف والمضيف لغوياً، وإذ كنتُ أنتمي للأمّ العربية، (اللغة) كلمة وبناءً وإعراباً بوصفي صاحبَ الدار، كانَ سليمو مُضيفاً يبزّ أهل الدار في شؤونهم، إلى أن رأيتُ بحكم نفسي الموّارة، والأمّارةُ بالخروج عن وعلى النسق، كيف أنّ المريدين يقتلونَ حجّتهم أولاً، ويقتلونَ علامتهم في أنفسهم،
فخرجتُ على الدار عن الدار، وعشتُ شبهَ غريبٍ، لم يطربني كثيراً صديقي” الوفي” حين أسماني” سليم بركات العرب”، ثم بعدَ صحوةٍ رأى في عنواني” آلام ذئب الجنوب” نديّة مع شمالات بركات، ومنذ تلكَ الكتابة_كتابته_نام هو في كأس صحوتهِ المتأخرة، وانطلقتُ أنا إلى عناوين أخرى، لها علاقة بي وبالجنوب والذئاب.
أخيراً..
هجرتُ فكرةَ أنْ أكونَ شاعراً عظيماً، أو ثائراً أو صاحبَ بسطةِ أخلاقٍ. ولو صَحّ لي الأمرُ، سأشكّلُ منَ الوحلِ الطيّع ثلاثةَ طليان معفّرة بأثارِ الحريقِ، وذئباً منَ البرونزِ.
وسأبقى طيلةَ حياتي القادمة راعياً، يَحرسُ مشهدَ الحقولِ المحترقةِ في فيلم واقعي طويلٍ، طويلٌ جداً.
البارحةَ قررتُ الكتابةَ عن المسرّات، وانتصرتُ للحيواناتِ الضعيفةِ في داخلي.
أولاً: سَدَدَتُ ثغرةً في السماءِ، كانَ الحزنُ ينزلُ منها بغزارةٍ. قيلَ أنّها أثرٌ من طائرة معاديةٍ، عادتُها أنْ تتركَ ندوباً عميقةً بالقربِ من وجوهِ الملائكة والأطفال. الذين” سيخبرون الله عن كل شيء”.
ثانياً: كنتُ طيلةَ فترةِ الكتابة وتلعثمي بها، أبكي بشدةٍ من هولِ الفرح، حتى أنيّ وجدتُ كميةً كافيةً من قطنِ الكلماتِ، حَشوتُ بهِ فمَ الحزنِ في قلبي.
لو قدر لي أنْ أكتبَ بسلاسةٍ، فأنا بحاجةٍ لفتحِ نافذةٍ.
أو شقّ صغيرٍ أطلّ منهُ على عالمي الذي كانَ.
على تلك السهوب المترامية من الذكريات.
بين مسقطِ رأسي وأطراف جبل سنجار.
حيث بحيرةٌ من السراب تعومُ فيها قطعانٌ من الذئابِ الشجاعةِ.
ولو سئلتٌ يوماً عن أمنيةٍ أو تجسّدَ أمامي ماردُ تحقيقِ الرغبات؟
سأسألُ عن الساعةِ الخامسةِ والعشرين، والذي لم أنجزهُ في خمسين عامٍ،
أنجزهُ في الساعةِ الإضافية!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سؤال الضفة
في ضوء التصدّعات الكبيرة و العميقة التي أصابت المنطقة في العشريّة الأخيرة على مختلف مستوياتها السياسية و الإجتماعية والديموغرافية وغيرها. أين تقف الفنون، الأدب و الشعر من كل هذا ؟
أي مستقبل، ملامح، صوت أو دور لها بين طغيان السلاح وصراع الهويّات؟
الكتابةُ اللافاشيةُ، حين انتصرنا لقضايانا الصغرى
رولان بارت في درسه النقدي، يستهجن اللغة الكلاسيكية باعتبارها_بحسبه_:” فاشية ومنافقة”.
إذ تنحاز للأيديولوجيات وخطاب” القضايا الكبرى”، وهي ـ وإن تكن منظومة متكاملةـ أي اللغة، فهي خارج أدبيتها تكون غامضة ولامعنىً بعيداً لها، إلّا بحمولتها كمفردة لا أكثر، وهذا قليلٌ مقارنةً بفعلها في الكتابة الأدبية والوظيفية، أي في مداها البعيد، في لعبتها وإغوائها.
شخصياً: أنحاز للمفهوم الـ(بارتي) بتعويم القضايا الصغرى للنّاص الأدبي، وأبحثُ عن تلك التفاصيل الصغيرة من الحب إلى الطفولة.
وإلى استشراف”غداً” والوقوف على هاوية، أو حافة أقربَ إلى جماليات الذات منها إلى المواضيع العامة والفضفاضة.
مثلاً الشعر كحقل كتابة واسع أتعامل معهُ كقارب ورقي. يمكن أن أكتب على جنباتهِ إسماً أحبّه، أو أضع فيه حبّة توت، سيكون هذا انتصار لقضاياي الصغرى.
على عكس لو وضعتُ مجلدَ الأخلاق الكبير، فإنّه سيغرقُ بالتأكيد، برأيٍ يمكن أن أقترب من كثير من المفاهيم التي أشترك بها مع الآخرين، بوصفها” أهميات”.
وذلك باقترابي من نفسي الواعية أكثر، أي أن أنطلق من الهوامش فأجعلها متناً!.
سورياً: تتجاور الرايات وتتخالف، وفرح البدايات، كأي فرح بدايات، لم ينسحب على السنوات كلها، ففشلت النخب، وتكرّست قوى دوغمائية، وفشلَ الحيّز المتلقي في تشكيل آلية تلقي جديدة.
ذلك أنه بالأساس، الهويات المتشطية والانتماءات الخلبية الأنية، تتطلبُ خطاباً كالذي استهجنهُ رولان بارت.
وبهذا صارت الكتابةُـ في كثير منهاـ تتوسلُ الحالة القطيعية بدلاً من تقديم مقترحها واجتراحها، في وقتٍ تكونُ الآداب والفنون جميعها في مأزق، بحيث صار المنتج الأدبي يفعلُ فعلهُ مع إخلاصه لذاتيته كما لو هو عبءٌ أخلاقيٌ، وتملّصٌ من المساءلة!. أخيراً: لاأستطيع القول بأن الحجرة يمكن أن تكون ردّا على لاعدالة العالم، كما قال ريتسوس بما معناه يوما.
لكني في الوقت ذاته مع سواد التقنية وانتصاراتها على مستوى العلم وصناعة الأسلحة، أقول لم يحدث تاريخياً أن ماتت الكتابة والفنون، وهذا يؤكد أهميتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد المطرود شاعر وناقد سوري من مواليد الحسكة السورية، يقيم في كولن الألمانية ومن مؤسسي جماعة حالة الأدبية وهي تجمع أدبي يجمع عددا من الكتّاب والشعراء السوريين والعرب في ألمانيا. صدر له: ثمار العاصفة عن دار الينابيع ١٩٩٧ سيرة بئر- دار التكوين ٢٠٠٥ ما يقوله الولد الهاذي- دار الرائي ٢٠٠٩ أسفل ومنتصف الحياة ( مشترك مع أديب حسن محمد)، دار الغاوون ٢٠١٢ اسمه أحمد وظلّه النار – دار النهضة العربية ٢٠١٦ آلام ذئب الجنوب، دار ميسلون ٢٠١٨ سلالة العجاج … وسم البدو وأنا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ٢٠٢٢
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إقرأ أيضا رسالة من تحت الأرض