أثارت نتائج الثانوية العامة التي صدرت منذ أيام، وبخاصة في فرعها العلمي، موجة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي. والحقيقة أن السخرية كانت واجبة أمام وضوح دور الغش في صناعة أوائل الجمهورية، وبمجموع كامل. وهو أمر كان نادر الحدوث في سوريا قبل العام 2011. إذ كانت نسبة النجاح هذا العام في الفرع العلمي بحسب وزارة التربية 66.3% . وهي نسبة ليست بالمرتفعة. وعلى الرغم من ذلك حاز 33 طالباً المجموع الكامل. (13) منهم في اللاذقية و(9) في طرطوس، وينتمون في غالبهم لمدرستين بذاتها، في حين توزع الباقي على المحافظات السورية، إلا دير الزور.
كانت الدير، ولاتزال، تحتل المركز الأول على مستوى سوريا في سمعة الغش الامتحاني. حتى أن هذا العام، أثيرت فضيحة حول تسريب أسئلة امتحان الثانوية العامة فيها. إلا أن السمعة لا تتوافق مع النتائج. حيث يغيب اسم المحافظة في قائمة أصحاب العلامة الكاملة.
وهذا ليس لعلة في مستوى ذكاء أبنائها، ولكن للظرف الذي تعيشه المحافظة ومن بقي فيها على مستوى الاقتصاد والخدمات ومن ضمنها التعليم. وهو وإن كان أقسى في الدير، إلا أنه عام في سوريا. والأهم، هو طبيعة عملية الغش في دير الزور، والتي تختلف جذرياً عنها في محافظات كاللاذقية وطرطوس. وما سمعة دير الزور في هذا المجال؛ إلا جزء من مظلوميتها، والتي يعتبر الغش الامتحاني إحدى تجلياتها، بوصفه رد فعل مقاوم. وسنحاول في هذا المقال تفسيره في سياق سوسيولوجي، يعتمد على مقترب إثنوغرافي قائم على المشاهدات والملاحظات الشخصية التي تختزنها الذاكرة عن امتحانات الشهادات الإعدادية والثانوية في دير الزور.
الغش كطقس اجتماعي (ربيع المعلم)
لا يحتاج أبناء دير الزور للاستعانة بمؤشرات التنمية الحكومية؛ لفهم اقتصاد المحافظة وترتيبها بين مثيلاتها في سوريا. فهم يعون جيداً ما أصابها من حيف، وكم تملك محافظتهم من موارد لا تنعكس على حياتهم فيها، وبخاصة على مستوى التعليم.
إذ لاتزال المحافظة تصنف نامية تعليمياً منذ ستينيات القرن الفائت. وفي حين تناسى البعث رفع ترتيب المحافظة تعليمياً وتنموياً؛ إلا أن ذاكرة أبناءها لا تنسى كيف وأد تأميم البعث بوادر البرجوازية المدينية. وحرمها من طرق تجارتها التقليدية نتيجة علاقاته مع تركيا والعراق. وبطبيعة الحال ضعف التنمية واستحواذ رجال أعمال مقربين من النظام ومن خارج المحافظة على استثمارات قطاع النفط والغاز. أدى هذا التعاطي الحكومي المزمن مع المحافظة إلى تحويلها إلى مدينة موظفين. تسودها الطبقة الوسطى بتدرجاتها من أدنى الوسط إلى أعلاه في حالة (الأطباء، المهندسين، المحامين والتجار). مع استثناءات لحالات ثراء قائمة في غالبها على الزبائنية للنظام والأجهزة الأمنية والفساد.
وفي ظل هذا الواقع الاقتصادي، وتردي التعليم الحكومي، بات البديل المتمثل بالدروس الخصوصية مرهقاً جداً للديريين. على الرغم من أن للعملية طابع مختلف في دير الزور؛ فهي أشبه بحالة تكافل اجتماعي وليست تجارية بحتة. يراعي فيها المدرسون أوضاع أقرانهم من أولياء الأمور الموظفين. ففي حين تُسعّر الحصة الخصوصية الواحدة بمبلغ معين يدفع نقداً قبل كل حصة في المحافظات السورية. يُسعّر كامل المنهج بمبلغ معين يدفع على أقساط شهرية لمدة عام أو أكثر في دير الزور. متضمناً كامل المراجعات والتحضيرات للامتحان، مع تسامح المدرسين في تأخير الأقساط، وإعفاء الطلاب غير القادرين منها، إن وجدوا، وهو أمر شهدته مراراً مع عدة مدرسين.
حرب وتكاليف
ومن تلك التكلفة الباهظة لتهيئة الطالب لامتحان الثانوية العامة (البكالوريا). ورغبة الأهالي في تحسين علامات أبنائهم بأي شكل. لما تمثله علامة زائدة ولو بالغش على مجموع الطالب في ظل نظام التعليم السوري من اختلاف في فرعه الجامعي، قد يترتب عليه تغيير في مستقبله الاجتماعي والاقتصادي. وهذا ما يعتبره (بيير بورديو) “رأس المال الثقافي” الذي يتم تحصيله رسمياً من العملية التعليمية. وله قيمة رمزية واقتصادية مرتبطة بسوق العمل. ولذلك هو وسيلة للترقي الاجتماعي بين الطبقات. يبدأ التحضير لعملية الغش قبيل بدأ الامتحانات بأسابيع. وتأخذ طابع الطقس الاجتماعي لأنها تمر بمرحلتين تتعلق الأولى بالأسرة الصغيرة (النووية)، والثانية بالأسرة الممتدة والعشيرة وما بعدها.
نفير عام
وأما الأسرة الصغيرة، وبخاصة الأم الديرية؛ فتبدأ بتحضير الأسلحة اللازمة لعملية الغش، وهي في الدير (المُصغّرات)، أي الكتاب المدرسي مصغراً عدة مرات ليصبح بحجم نصف كف اليد تقريباً. وتمتلك هذه التكنولوجيا مكتبتان أو ثلاث فقط في المدينة، تَجِدُ الناس طوابيراً أمام كلٍ منها؛ لشراء ما يُعرف (بطقم المُصغّرات) أي كتب المواد كاملة.
وعادةً، تفضل الأمهات شراء طقمين، فيحمل ابنها نسختين لكل كتاب في الامتحان مخفيتين في مكانين مختلفين. وفي حال تمت مصادرة إحداهما، يستخدم الأخرى. بعد شراء (المُصغّرات)، تبدأ الأم الحنون في التفكير بطريقة إخفائها، وهو أمر يتطلب ذكاءً استثنائياً، ومهارات خاصة في الحياكة. والدارِجُ بين الأمهات، خياطة حزام مطاطي أشبه بالجعبة العسكرية، يُلبَس تحت الثياب، وفيه جيوب توضع فيها (المُصغّرات). بعد إتمام عملية تسليح وتذخير الطالب كمقاتل في معركة الغِش، يأتي دور الجنرالات من الإخوة والأقارب والجيران أصحاب الخبرة الميدانية السابقة في شرح تكتيكات المعركة. بدءً من كيفية تجاوز التفتيش على باب المركز الامتحاني، إلى التعامل مع المدرسين في القاعة، وتقنيات إخراج (المُصغّر) والبحث عن المعلومة بسرعة، أي الحرب الخاطفة.
المدينة كحارة كبيرة
وبالتزامن مع الاستعداد (العسكري للحرب) لابد من مساعي ديبلوماسية لضمان كسبها. وهنا تجند الأسرة الممتدة نفسها (أعمام، أخوال، أبناء عمومة…إلخ) في سبيل التعرف والتواصل مع رؤساء المراكز الامتحانية والمراقبين فيها من المدرسين. وهو نشاط يسبقه عملية استطلاع في مديريتي التربية والامتحانات لمعرفة الأسماء. يُصبح في هذه المرحلة المُراقب هو نجم المجتمع الديري، إذ تنهال عليه الاتصالات والزيارات من كل حدبٍ وصوب؛ للتوصية بالطلاب الذي يقدمون امتحانهم في مركزه الامتحاني.
ولا يخلو الأمر من هدايا واتفاقات من تحت الطاولة، وإن كانت على نطاق محدود جداً. ما يُسهِّل على الأهل مهمة التواصل، ويُصعِّب على المدرس رفضها حتى وإن كان ضد مبدأ الغش، هو التركيب الاجتماعي للمدينة. فدير الزور ذات بُنية اجتماعية عشائرية، وتمتاز أحياؤها، ولاسيما القديمة منها بتقسيم عشائري. حيث ينتمي سكان كل حي لذات العشيرة، وبالتالي فالمُدرّس في مدارس الحي هو غالباً ابن العشيرة وله صلات دم بالطلاب. ومن ناحية أخرى صِغَر حجم المدينة، وخلوها من كتل غرباء عنها، يجعل الجميع يعرف الجميع، وهو ما يعبر عنه أبناء المدينة بقولهم: (ما بي ديري ما يعرف ديري).
قاعة الامتحان: الغِشّ بوصفه عدالة
يدخل الطالب قاعة الامتحان بمشاعر مختلطة بين التوتر بانتظار أسئلة الامتحان، وأمل بطاقم مراقبين يِضّم أحدَ معارفه، أو مُتساهلين بالحد الأدنى. توزع الأوراق، ويبدأ الامتحان، ينهمك الطلاب بقراءة الأسئلة، غير منصتين لما يتلوه رئيس القاعة من تعليمات امتحانية. وبعد انتصاف وقت الامتحان، غالباً، ترتفع عيون الطلاب عن الأوراق، بعد أن أكملوا حل ما يستطيعون من أسئلة؛ لتستقرئ وجوهَ المراقبين، وتتساءل في صمت (إيمت نفتح؟)، و(نفتح) في معجم الامتحان الديري، عائدة على (المُصغّر)، وهي كلمة السر بين المراقب والطالب. يبدأ المراقبون بالتشاور همساً بين بعضهم؛ ليتأكدوا أن أحدهم لا يمانع أو (ماسكها حنبلية) كما نقول في الدير. وعادةً ما يُتّخذ القرار في الربع ساعة الأخيرة. وإذا كانت النية موجودة (للفتح) لدى المراقبين، غالباً ما يطلب رئيس القاعة (ابن الحلال) من الطالب الذي ينوي تسليم ورقة إجابته قبل انتهاء الوقت الانتظار، بعبارة (خليك قاعد)، وهي رسالة طمأنة مشفرة لباقي الطلاب بأن الفرج قريب.
ساعة الصفر
تَحينُ اللحظة المنتظرة؛ فيوجه رئيس القاعة أحد المراقبين لمراقبة بابها، تَحسّباً من رئيس المركز، أو مندوب التربية أو الوزارة. والذين تتكثف زياراتهم الرقابية للمراكز التي تنتشر الأخبار عن تساهلها، ودائماً ما يكون مُستخدَم المدرسة هو خط الدفاع الأول للتحذير من أي زائر غير مرغوب به. بعد التأمين، يقول رئيس القاعة (افتحوا بهدوء معاكم عشر دقايق)، وهو الشائع من حيث التوقيت مع وجود استثناءات لمدد أطول أحياناً.
تَرفعُ كلمات رئيس القاعة الأدرناليين لدى الطلاب إلى أقصى حدوده. وتبدأ رحلة البحث عن الإبرة في كومة قش. إذ ليس من السهل إيجاد معلومةٍ في كتابٍ كاملٍ وبحجم نصف كف اليد، في وقتٍ محدود. وتحت ضغط الامتحان والرغبة في انتهاز الفرصة. وهنا تتجلى العدالة. فلن يستفيد من هذا الوقت الضيق ويُحسن استغلاله، إلا مَن يعرف أين توجد المعلومة في الكتاب. أي الطالب الذي أحسن التحضير للامتحان. ومقدار الاستفادة يتعلق أيضاً بحجم النقص في إجابات الطالب، فالوقت والظرف لا يسمح للطالب غالباً، إلا باستكمال إجابة سؤال أو أجزاء منها، وبالتالي الغش الديري لا يصنع معجزات.
للعدالة وجوه كثيرة ولكن..
قد يخطر بذهن القارئ لهذه السطور سؤالٌ راود الكاتب من قبله. وهو الدافع وراء استعادة هذه الذاكرة القديمة نسبياً عن امتحانات دير الزور. وهو دافع المُدرّسين لتجشم عناء هذه المغامرة مجاناً، بما قد تحمله من تبعات وظيفية إذا ما كُشفت؟.
وهنا يبدو التفسير بالعصبية نتيجة التركيب الاجتماعي للمحافظة قاصراً لوحده عن فهم الغِشّ الامتحاني كظاهرة. وهي تحتاج إلى الذهاب أبعد من ذلك سوسيولوجياً للفهم والتحليل.
وهنا أستعيد من الذاكرة عبارةً قالها همساً رئيس قاعتي الامتحانية للمراقبين معه، في سياق تبرير (فتح القاعة). وقد كان مقعدي قريباً بما يكفي لأسمعها. وهي باللهجة الديرية ” هذول ولادنا، خليهم ينجحون ويجيبون علامات عالية، باللاذقية الأسئلة تفوت للطلاب محلولة”. تعتبر هذه الكلمات مفتاحية في فهم الظاهرة، إذا ما تعاطينا معها بوصفها خطاب بالمعنى الفوكوي (نسبة لميشيل فوكو)؛ إذ يعكس هذا الخطاب السُلطة التي يملكها هذا المراقب في القاعة. والتي يحاول من خلالها إعادة إنتاج السُلطة خارجها لتحقيق ما يعتبره عدالة وانتصاف من سلطة ظالمة فاسدة وبذات أدواتها. ومن السهل تَلمُس أثر تلك السُلطة الظالمة ما وراء خطاب المراقب، والذي يعكس مظلومية أبناء المحافظة من خلال علاقتهم بالسُلطة. والتي رمز لها “باللاذقية” للتعبير عن بعدها الأمني الطائفي المهيمن في دير الزور.
السلطة وإعادة إنتاجها
أما عن هذا المراقب بوصفه مُدرّس، وسماحه بالغش منافٍ لأخلاق مهنته. فيعيدنا إلى (بيير بورديو)، ومقولته في أن المدرسة إحدى المؤسسات السلطوية. والتي تمارس العنف الرمزي، وتهدف إلى عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي؛ عبر فرض ثقافة الطبقة المُسيطرة. وفي هذا السياق، حتى وإن كان المُراقب غير مطلع على وجهة نظر بورديو؛ إلا أن معناها استقر في نفسه بالتأكيد من خلال خبرته في التدريس ضمن نموذج مدارس البعث ومناهجها. وفي الغالب جزء من سلوكه في قاعة الامتحان ما هو إلا شكل من أشكال التمرد على هذا النموذج للمدرسة كمعلم، وعلى السلطة ذاتها كمواطن صاحب مظلومية.
تُظهر نتائج الثانوية العامة لهذه السنة صدق مقولة ذاك المراقب. وتثبت أن (الغِشَّ العادل) من منظور المظلومية، لا يصنع أكثر من السُمعة السيئة. وأما أصحاب المجموع الكامل؛ فَيُصنع أغلبهم “الأسئلة المحلولة”. واللافت هذا العام، أن ما كان يقال طوال سنوات همساً بين السوريين، صارت النتائج الرسمية تُجاهِر به بكل وقاحة وفجاجة. وهذا ما قد يكون جزءاً من خطاب انتصار النظام السوري على الشعب؛ إذ لم يعد يعبأ بما يقال همساً أو علناً. فثقافة المجموع التام لم تك مألوفة قبل الثورة في أي مجال، حتى حافظ الأسد سابقاً لم يحصل على المجموع الكامل في استفتاءات الرئاسة. ولكن بعدها أصبح حافظ الحفيد قادر على جمع وقصر البكالوريوس والماجستير في روسيا، وبعلامة تامة؛ فهو على سفر.
إقرأ أيضاً الطواحين لم تكن وهماً يا دون كيشوت