أمام محكمة ما، أرضية أو سماوية لا أعرف. ولا أعرف متى سيحصل ذلك، لكنني متأكد من وقوعه، ومتأكد أني سأقف يوماً ما لأحاكم عن جرم صغير، أو عن مجمل آثام حياتي.
أخطط منذ الآن للدفاع عن نفسي باستخدام مزيج من التفاخر والتذلّل المُكسب للتعاطف.
وهذه التقنية تحتاج فقط للعثور على شيء جيد فعلته في هذه الدنيا، ومررته كضوء خافت بين خطاياي الكثيرة.
سأقدّمه مضخّماً ومجمّلاً، ومنفوخاً لحجمٍ يملأ كفة الحسنات في الميزان. لعلي بذلك أضلّل المحكمة وأوهمها أنني لست بالسوء الذي أبدو عليه. فربما تأخذني بالرأفة، وتترفق بي عند النطق بالحكم.
واحدة من الأشياء التي أحضّرها حين أمثل أمام تلك المحكمة هو مرافعة صغيرة سأبدؤها هكذا: مقرٌّ بذنبي، بذنوبي كلها، لكن أرجو أن يتسع صدر عدالتكم، وتأخذوا بعين الاعتبار أنني الرجل الذي جعل ثلاث شابات من طرطوس يبتهجن لأغنية من الرقة، بل وسمعت أنهن رقصن على أنغامها.
معنى الزمن
أمارس منذ سنتين أو ثلاث لعبة ممتعة على فيسبوك، أختار موالاً (بيت موليا، أبوذية، نايل، دارمي، عتابا، أغنية..) ينتمي لبيئة محددة وضيقة، أو ينتسب لتراث مجهول، أو صعب الفهم على الغرباء. والغرباء بالنسبة لتراثنا في هذا الإقليم هم أبناء البلد نفسه إذا ما كانت غرفة معيشتهم تبعد مئة كيلومتر عن بيت الشاعر الذي كتب الأغنية.
أنشر فيديو للأغنية، أكتب كلماتها، أترجمها إلى الفصحى بما تيسر لي فهمه، أستنهض أبناء المنطقة من أصدقائي ليصوبوا لي ما فهمته خطأً، وليرمموا ما استغلق علي، وهكذا تتحول التعليقات إلى كرنفال من الحكايات والشروحات وجذور الكلمات، ودلالات الكنايات.
فعلت ذلك مع تراث الفرات كثيراً. (شمال الخابور وجنوبه على السواء)، تراث حوران، القلمون، الغاب، الجفتلك عموماً وسلمية خصوصاً، فلسطين. وفي كل مرة كنت أشعر ببهجة مدغدغة وأنا أراقب تفاعل وتعليقات أبناء المناطق الأخرى. والتي وصل بعضها لحد التشبه برأس نيوتن حين ضربته التفاحة، أو جسد أرخميدس العاري راكضاً في الشوارع. حيث كانوا يتعاملون مع فهمهم لجملة: “ع الريمة اللي اجتفت عقلي بمعانيها” وكأنهم عرفوا معنى الزمن.
اتصلت بي زوجة أخي ذات مرّة، وطلبت مني أن أقسم على صحة ما كتبته لأنه أصابها بالذهول، وظنّت أنني ألفته، وكنت يومها قد كتبت (في سياق ما) عن نساء الفرات اللواتي يحطن بالمرأة التي تلد ويرددن دون انقطاع: “الله وعلي الله وعلي الله وعلي”. بعد أن أقسمت لها أن ذلك صحيح سألتني: وهل تكون آلام المخاض شديدة مثلنا، أم يلدن بسهولة؟
تطلع شمس
أما حكاية مرافعتي التي أخبئها ليوم محاكمتي فقد وقعت خلال لقاء جمعني مع مجموعة أصدقاء ومعارف بمناسبة عودة صديق من ألمانيا، من بين الموجودين كانت ثلاث محاميات من طرطوس يعشن معاً في بناء واحد في دمشق. خلال الجلسة اعترفت الشابات أنهن فهمن بسببي ما معنى “تطلع شمس وتغيب وعيني على دربك.. قلبي حنين عليك ومو متل قلبك.. جيت العب ويّا البيض وما لاعبني.. قالنلي وقتك ريحل واتعذّرني” وثم أخبرتني إحداهن همساً أنهن أصبحن يرقصن، حين يكنّ لوحدهن على هذه الأغنية، وبضع أغانٍ أخرى عرفنها عبر البحث على يوتيوب وفيسبوك، بعد أن تورطن بالغناء الفراتي.
بعد ساعة، ومع سريان الأريحية في الجلسة مدّت إحدى الشابات يدها نحوي وقالت لي: علّمني كيف: “جَعّد رْدان القِصِيرة”. كانت قد قرأت ترجمة إلى الفصحى على فيديو لزيد وعبد الله الحسن يغنيان: “قومي من يمي قومي قبل ما شق هدومي” حتى يصلا إلى: “شفت الماني بسفيرة مجعدة ردان القصيرة.. ها البنية وستيرة.. تحاكيني بلغو الماني” ضحكت وأخبرتها أن عليها أن تلبس “قِصيرة” أولاً، وأن شركة زارا التي تلبس منها قميصاً، تضع الأزرار بطريقة تجعل ما يحيط المعصم مجرد أكمام، ولا يمكن أن يصبح “أرداناً”.
نساء الفرات
السؤال المركّب والقاصم في تلك الجلسة جاء من الشابة الصامتة ذات العينين الخضراوين والتي لم تقل سواه تقريباً طيلة سهرة امتدت لساعات: أين تعثر نساء الفرات على رجال يحبونهن بهذه الطريقة؟
ولأن الجلسة لم تكن تحتمل الجدية المفرطة، والدخول في تحليل أنثروبولوجي متحذلق، فقد اختصرنا العوامل كلها بجملة واحدة: يبدو أنهن نساءٌ جديرات بحبٍ كهذا، أو أنها طريقة الرجال للهروب من الموت، بالموت حباً. ثم قدنا الجواب نحو المرح، وبدأنا بتخيل امرأة شامية سعيدة ومكتفية بحب زوجها الذي عاد من دكانه، فوجد الحسناء المدللة نائمة، فتركها لنومها الهني، وأحضر العدة إلى صحن الدار ليشوي لها حبات الحُمّص المقشّرة، ويعطيها الفرصة لتتفاخرعلى صديقاتها النساء العاديات: “يا قضامة مغبرة يا قضامة مالحة وجوزي لمن غبّرها كنت أنا نايمة”.
هذه المحظوظة المتفاخرة بزوج محب ولطينهمف، كاد يغمى عليها حين عرفت أن رجلاً من الفرات غنى لمحبوبته: “حطّوا قريبين… يا عيني لا تبجين .. ماهم بعيدين .. مشية سنة على الخيل”
وأنها لو سمعت وفهمت ما يقصده الرجل الآخر حين قال لمحبوبته:
“نيران قلبي سعرت يا حمو سانيها
ع الريمة اللي اجتفت عقلي بمعانيها
لمن تبسمولك وحلن ثمانيها
بيض الرهايف بعود الروك مجلية”
فالأرجح أنها ستتصل بالخط الساخن لجمعية حماية النساء المعنّفات. وستصرخ عبر الهاتف: لقد خدعني لقرون، كنت أظنّه “مُجندراً“. كنت أظن نفسي “مُمَكّنة”. ثم ستجهش ببكاء طويل. قد يستمر عقوداً من الزمن، ريثما يأتي رجل من الفرات ليقول لها:
“طيبة دمعتك.. طيبة دمعتك
ع قبري عاد شلون”
…………………………………………
شرح بعض المفردات:
ردان القصيرة: أكمام الثوب الداخلي
الريمة اللي اجتفت عقلي بمعانيها: الغزالة التي كتّفت/ ربطت عقلي بملامحها.
حلّن ثمانيها: بانت علينا أسنانها الأمامية الثمانية حين ابتسمت
بعود الروك مجلية: بعود الإراك أو السواك ملمعة
طيبة دمعتك ع قبري عاد شلون: يا لجمال دمعتك، ياه كم ستكون أجمل على قبري (أشتهي الموت لأجلها)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إقرأ أيضاً نفي الآخر، وسلطة اللاتنوع